Translate

الأحد، 6 يناير 2013

الشورى في أراضي الخراج

الخراج له معنيان: عام وهو كل إيراد وصل إلى بيت مال المسلمين من غير الصدقات، فهو يدخل في المعنى العام للفيء ويدخل فيه إيراد الجزية وإيراد العشور وغير ذلك وله معنى خاص: وهو إيراد الأرض التي افتتحها المسلمون عنوة وأوقفها الإمام لمصالح المسلمين على الدوام كما فعل عمر بأرض السواد من العراق والشام والخراج، لا يقاس بإجارة ولا ثمن، بل هو أصل ثابت بنفسه لا يقاس بغيره عندما قويت شوكة الإسلام بالفتوحات العظيمة وبالذات بعد القضاء على القوتين العظيمتين الفرس والروم، تعددت موارد المال في الدولة الإسلامية وكثرة مصارفه وللمحافظة على كيان هذه الدولة المترامية الأطراف وصون عزها وسلطانها وضمان مصالح العامة، والخاصة كان لابد من سياسة مالية حكيمة رشيدة، فكر لها عمر رضي الله عنه، ألا وهي إيجاد مورد مالي ثابت ودائم للقيام بهذه المهام، وهذا المورد هو: الخراج فقد أراد الفاتحون أن تقسم عليهم الغنائم من أموال وأراض وفقاً لما جاء في القرآن الكريم خاصَّا بالغنائم: " وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ َلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ") الأنفال, آية: 41).
وقد أراد عمر رضي الله عنه في بداية الأمر تقسيم الأرض بين الفاتحين، ولكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عدم التقسيم، وشاركه الرأي معاذ بن جبل وحُذَّر عمر من ذلك. وقد روى أبو عبيدة قائلاً: قدم عمر الجابيه فأراد قسم الأراضي بين المسلمين فقال معاذ: والله إذن ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يُسدون من الإسلام مسدّاً، وهم لا يجدون شيئاً فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم لقد نبه معاذ بن جبل رضي الله عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى أمر عظيم، جعل يتتبع آيات القرآن الكريم، ويتأملها مفكراً في معنى كل كلمة يقرؤها حتى توقف عند آيات تقسيم الفيء في سورة الحشر، فتبين له أنها تشير إلى الفيء للمسلمين في الوقت الحاضر، ولمن يأتي بعدهم، فعزم على تنفيذ رأي معاذ رضي الله عنه، فانتشر خبر ذلك بين الناس ووقع خلاف بينه وبين بعض الصحابة ومنهم بلال بن رباح والزبير بن العوام يرون تقسيمها، كما تقسم غنيمة العسكر، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، فأبى عمر رضي الله عنه التقسيم وتلا عليهم الآيات الخمسة من سورة الحشر من قوله تعالى: "وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الحشر, آية:6) حتى فرغ من شأن بني النضير ثم قال: "مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (الحشر, آية: 7 (فهذه عامة في القرى كلها ثم قال: " لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " (الحشر, آية: 8 (ثم لم يرضى حتى خلط بهم غيرهم فقال: " يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " (الحشر, آية: 9). فهذا في الأنصار خاصة ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال:" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحشر, آية: 10).
فكانت هذه عامة لمن جاء بعدهم، فما من أحد من المسلمين إلا له في هذا الفيء حتى قال عمر لئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه.
وفي رواية أخرى جاء فيها قال عمر: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت ما هذا برأي فقال عمر: ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن يكون كَلاَّ على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل لهذا البلد وبغيره من أراضي الشام والعراق؟ فأكثروا على عمر وقالوا: تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم وأبناء أبنائهم ولم يحضروا، فكان عمر رضي الله عنه لا يزيد على أن يقول: هذا رأيي، قالوا: فاستشر، فأرسل إلى عشرة من الأنصار من كبراء الأوس والخزرج وأشرفهم فخطبهم وكان مما قال لهم: إني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي، ثم قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها واضعاً عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية، ولمن يأتي من بعدهم، أرايتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها أرايتم هذه المدن العظام لا بدلها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم فمن أين يُعطي هؤلاء إذا قسمت الأرض والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعم ما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوّون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم.
وقد قال عمر فيما قاله: لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم، ولم يكن لما جاء بعدهم من المسلمين شيء، وقد جعل الله لهم فيها الحق بقوله تعالى: "فاستوعبت الآية الناس إلى يوم القيامة، وبعد ذلك استقر رأي عمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم على عدم قسمة الأرض وفي حواره مع الصحابة يظهر أسلوب الفاروق في الجدل وكيف جمع فيه قوة الدليل وروعة الصسورة واستمالة الخصم في مقالته التي قال للأنصار، عند المناقشة في أمر أرض السواد، ولو أن رئيساً ناشئاً في السياسة، متمرساً بأساليب الخطب البرلمانية أراد أن يخطب النواب "لينال موافقتهم" على مشروع من المشروعات لم يجئ بأرقّ من هذا المدخل أو أعجب من هذا الأسلوب، وامتاز عمر فوق ذلك بأنه كان صادقاً فما يقول، ولم يكن فيه سياسياً مخادعاً وأنه جاء به في نمط من البيان يسمو على الأشباه والأمثال لم يكن الفاروق مخالفاً للهدي النبوي في عدم تقسيمه للأراضي المفتوحة، وقد كان سنده، فيما فعل - أموراً منها:
- آية الفيء في سورة الحشر.
- عمل النبي صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة عنوة فتركها لأهلها ولم يضع عليها خراجاً.
- قرار مجلس الشورى الذي عقده عمر بهذه المسألة بعد الحوار والمجادلة وقد أصبح سنة متبعة في أرض يظهر عليها المسلمون ويقرون أهلها عليها، وبهذا يظهر أن عمر حينما ميز بين الغنائم المنقولة وبين الأراضي كان متمسكاً بدلائل النصوص، وجمع بينها وأنزل كلاً منها منزلته التي يرشد إليها النظر الجامع السديد، يضاف إلى ذلك أن عمر كان يقصد أن تبقي لأهل البلاد ثرواتهم وأن يعصم الجند الإسلامي من فتن النزاع على الأرض والعقار، ومن فتن الدعة والإنشغال بالثراء والحطام.

إن الفاروق رضي الله عنه كان يلجأ إلى القرآن الكريم يتلمس منه الحلول ويطوف بين مختلف آياته، ويتعمق في فهم منطوقها ومفهومها، ويجمع بينها ويخصص بعضها ببعض حتى يصل إلى نتائج تحقق المصالح المرجوة منها، مستلهماً روح الشريعة غير واقف مع ظواهر النصوص وقد أسعفه في قطع هذه المراحل إدراكه الدقيق لمقاصد الشريعة بتلكم النصوص، وهي عملية مركبة ومعقدة لا يحسن الخوض فيها إلا من تمرس على الاجتهاد وأعطي فيها فهماً سديداً وجرأة على الإقدام حيث يحسن الإقدام، حتى خيل للبعض أن عمر كان يضرب بالنصوص عُرْض الحائط في بعض الأحيان، وحاشا أن يفعل عمر رضي الله عنه ذلك لكنه كان مجتهداً ممتازاً اكتسب حاسة تشريعية لا تضاهي حتى كان يرى الرأي فينزل القرآن على وفقه، والنتيجة التي نخرج بها من هذه القضية هي أن القرآن يفسر بعضه بعضا، ومثله في السنة.
ما هي القيم والمصالح في عدم تقسيم أراضي الخراج؟
هناك جملة من المصالح التي استند إليها عمر بن الخطاب - والذين وافقوه على رأيه - في اتخاذ هذا القرار يمكنني تصنيفها إلى صنفين: أولهما: المصالح الداخلية وأهمها سد الطريق على الخلاف والقتال بين المسلمين، وضمان توافر مصادر ثابته لمعايش البلاد والعباد، وتوفير الحاجات المادية اللازمة للأجيال اللاحقة من المسلمين.

وثانيهما: المصالح الخارجية والتي يتمثل أهمها في توفير ما يسد ثغور المسلمين ويسّد حاجتها من الرجال والمؤن، والقدرة على تجهيز الجيوش، بما يستلزمه ذلك من كفالة الرواتب وإدرار العطاء وتمويل الإنفاق على العتاد والسلاح وترك بعض الأطراف لتتولى مهام الدفاع عن حدود الدولة وأراضيها اعتماداً على ما لديها من خراج، والذي يجب ملاحظته في هذه المصالح أن الخليفة أراد أن يضع بقراره دعائم ثابتة لأمن المجتمع السياسي ليس في عصره فقط، بل وفيما يليه من عصور بعده وعباراته من مثل "فكيف بمن يأتي من المسلمين" "وكرهت أن يترك المسلمون" التي توخي بنظرته المستقبلية لهذا الأمن الشامل تشهد على ذلك، وقد أثبت تطور الأحداث السياسية في عصر عمر بن الخطاب صواب وصدق ما قرره.
أ- إن تعدد أطوار اتخاذ القرار بعدم تقسيم الأراضي قد أكد أمرين: أولهما: أن بعض القرارات المهمة التي تمس المصالح الجوهرية للمسلمين قد تأخذ من الجهد والوقت الكثير، كما أنها قد تتطلب قدراً من الأناة في تبادل الحجج والبراهين دون أن يتيح ذلك مجالاً للخلاف وتعميق هوة الانقسام أحياناً أو يفوت بابا من أبواب تحقيق بعض المصالح الخاصة بأمن الأمة في حاضرها ومستقبلها، والأمر الثاني: أن بعض القرارات المهمة التي قد تخرج بعد عسر النقاش والحوار، والبداية المتعثرة لها، يفرض على الحاكم الشرعي أن يكون أول المسلمين وآخرهم جهداً في السعي إلى تضييق هوة الخلاف، والتقريب بين وجهات النظر المتعارضة لكي يصل بالمسلمين إلى الحكم الشرعي فيما هو متنازع بشأنه.

ب- إن تبادل الرأي والاجتهاد بين الخليفة والصحابة الذين لم يوافقوه على رأيه واستناد الكل في ذلك إلى النصوص المنزلة في الاجتهاد يثبت أن الفيصل في إبداء الآراء في القرارات السياسية عامة والتي تمس مصالح المسلمين بصفة مباشرة خاصة، هو أن تجيء هذه الآراء مستندة إلى النصوص المنزلة، أو ما ينبغي أن يتفرع عنها من مصادر أخرى لا تخرج عن أحكامها في محتواها ومبرراتها.
ج- إن لجوء الخليفة إلى استشارة أهل السابقة من كبار الصحابة العلماء في فقه الأحكام ومصادر الشرع، واستجابتهم بإخلاص النصح له، يؤكد أن أهل الشورى لهم مواصفات خاصة تميزهم فالذين يستشارون هم أهل الفقه والفهم والورع والدراية الواعون لدورهم، إنهم بعبارة أدق الذين لا إمعية في آرائهم، ومن دأبهم توطين أنفسهم على قول الحق وفعله غير خائفين في ذلك لومة لائم من حاكم أو غيره.
س- ثم يبقى القول: إن ما حدث بصدور قرار عدم تقسيم الأراضي يظل نموذجاً عالياً سار عليه الصحابة في كيفية التعامل وفق آداب الحوار وأخلاقيات مناقشة القضايا، وتقليب أوجهها المختلفة ابتداءً بمرحلة التفكير في اتخاذ القرار بعدم تقسيم الأراضي - بصفة مباشرة، أو غير مباشرة - وعلى رأسهم الخليفة الذي لم يخرج عن هذه الآداب رغم اختلاف اجتهاداتهم بشأنه.
بل إن الفاروق بين أن الحاكم مجرد فرد في هيئة الشورى، وأعلن الثقة في مجلس شورى الأمة، خالفته أو وافقته، والرد إلى كتاب الله، فقد قال رضي الله عنه: إني واحد منكم، كأحدكم، وأنتم اليوم تفرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ومعكم من الله كتاب ينطق بالحق.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق